info@suwar-magazine.org

ما بعد اللفافة الأولى.. لحظة تداهمك "الحكمة"، يعني "سلامات".. هنا نهايتك

ما بعد اللفافة الأولى.. لحظة تداهمك "الحكمة"، يعني "سلامات".. هنا نهايتك
Whatsapp
Facebook Share

 

أية لغة هذه؟ هي لغة "الست"، لم أتعرف على جذورها سوى بالصدفة، مجرد صدفة جعلتني أعلم بأن "غد بظهر الغيب واليوم لي"، مطلع رباعيات الخيام لأم كلثوم، هي من كلمات عالم الفلك والرياضي والفيلسوف والشاعر والفارسي عمر الخيام.. نعم عمر الخيّام ووفق وكيبيديا فاسمه أطول من كلمتين:

ـ غِيَاث الدِّين أبو الْفُتُوح عُمَر بن إِبْرَاهِيْم بن صّالحَ الخَيّام النَيْسَابُوْرِيْ.

 

ـ هل لك أن تحفظ هذا الاسم الطويل؟

 

سيكون هذا فعل إجحاف على الذاكرة إن لم نقل قتلها، فالاسم هو الكائن الوحيد الذي تُعلّقه على جدران ذاكرتك، ليس كما القميص أو القبّعة أو ذاك المعطف الذي اقتنيته تخوّفاً من نزلة برد، ومع هذا فلتُّ في عواصم الصقيع عاري من كل ثيابي، متخففاً من أسر الملابس كما لو حنين لحقبة أجدادنا القردة، وليس لك أن تستهين بالقردة، كل اختلافك عنها هو الفارق ما بين الشركة، والشراكة.. القردة تشتغل بالشراكة وأنت مستعبَد للشركة.

 

مع "الست"، و "الجليل"، ورباعيات الخيّام، حدث لي ما لا يمكن تصديقه أو تصويبه:

ـ لقد بدأت أطير.

نعم أطير فيزيائياً، كل ما بي تحرر من سطوة قوانين الجاذبية الأرضية فبات خفيفاً كجناح طائر.

 

ـ أيّ لغة هذه وأيّ أم كلثوم؟

 

لغة تختزلها بـ:

ـ وطال بالأنجم هذا المدار.

 

مع أول لفافة ماريوانا، أدركت أنني أسمع أكثر مما يجب، وأعذب مما يجب، وبكل ما أحمله ليس ثمة "يجب"..

ثمة "لا يجب"، وهذا بداية الانتحار وربما بداية المنعطف، لرجل باتت أقدامه لا تُسعف ذاكرته، فالذاكرة توأم الأقدام ورفيقتها، فلولا الحركة لما كانت الذاكرة، ولولاهما لما استمعت لأم كلثوم كما هذه اللحظة، وهي لحظة لم تعتل أمّ كلثوم وحدها خشبة المسرح، بل على الخشبة مصر، القاهرة بحواريها وزواريبها، وبذاك الكابريه الذي رقصت لك فيه فتاة عرجاء كي ترضيك باعتبارك "الزبون".

 

لستُ زبوناً، وليست "الراقصة العرجاء"، هي بنت الكدّ والقامة الأشبه بناي منتزع من أعظم ما أنتجه القصب.

 

تلك هي مصر، وفوق الخشبة في هذه اللحظة حشود ممن صنعوك، أما بالنسبة لي فأنا "صناعة مصرية" وذاكرتي هي هذا الـ "أنا"، ولهذا فعلى خشبتي الآن: سيّد درويش، الشيخ إمام، عمر الشريف، محمود عبد العزيز، عبد الرحمن الأبنودي، نجيب سرور، شويكار وفؤاد المهندس، سعاد حسني وأحمد زكي، وستكون سيّدة الاحتفال:

ـ هند رستم.

في هذه اللحظة أتأمل صورتها.. لكل وجه احتمال أو احتمالين وربما أكثر قليلاُ، وحده لوجه هند رستم ما لا ينتهي من الاحتمالات، بوسعك أن تراها:

ـ رئيس وزراء بريطانيا العظمى.. عاهرة رصيف.. ليدي.. برنسيسة.. عاشقة.. مراهقة.. أم طافحة بالأمومة.. فلاّحة قادمة توّاً من الغيطان.

 

ما من وجه يمنح كل هذه الاحتمالات سوى وجهها، وكنت أظن أن لرومي شنايدر ملكية حصرية للاحتمالات.

 

مصر هي "هند رستم"، ولهذا فهي "أمّة"، هي الاسم الثالث التي تحمله مع اسمك، بكل فوضاك، وبكل أحلامك، وبكل هفواتك التي قد تقودك في لحظة ما إلى الخجل.

 

ثمة هفوات مُخجِلة، كأن تمتنع عن "المحبة" لحقبة ثم تستكشف أنك مقتول مؤجّل، فتعود لتزحف إليها، أعني المحبة وهي بالمحصلة مجموع هؤلاء، مواطني ذاكرتك، وعلى العموم فبالنسبة لي ذاكرتي صرف مصرية، ذلك أنني ابن لمساحة لا تعرف نفسها، وغير راضية عن نفسها، فكانت "دولة" مرسومة وفق ما ترتأيه أصابع الثنائي سايكس وبيكو، ولم تتحوّل إلى أمّة تحملها مع اسمك.

 

لعبة الأمم لعبت بسوريا، فكانت خارطة عجيبة، والطغيان لعب بها، فجعل "الأمّة"، مجرد أقلية لسلطة تفعل بها ما تشاء، وكانت قد توطّدت مع حافظ الأسد، فانتقلت التسمية من "الجمهورية" إلى "سوريا الأسد"، فباتت الأمّة رعية، محكومة بالتعايش القسري مع ناهب لا للموارد فحسب، بل ناهب "للمزاج".

 

الأمم "مزاج"، هو الأمر كذلك ومزاج الأمم ربما يتفجّر في اللحظة الآسرة، لحظة الرقص الأقصى وتكسير أواني الطعام، وسيكون "التظاهر" هو مفتاح تلك المغاليق القاتلة ما بينك وبين الأمّة.

 

في التظاهرات مجموع الناس يشكلون أمّة، قد لا يحدث هذا في الأعراس، فالذاهبون إلى الأعراس بملء أناقتهم، يذهبون لتوطيد الماضي، فيما المتظاهِر يقفز إلى فتح مغاليق المستقبل، قد تقوده أقدامه إلى بوابات خائبة؟

 

ـ لا بأس فلتكن الخيبة، غير أن الفرنسيين يوم أطلقوا ثورتهم، أخذت مقاصل الثورة رأسي دانتون وروبسبير، فالثورات "قحبة" أعرف ذلك، ولكنها "لذيذة"، مبعث لذتها أنها مثل الأرض لا تعرف متى ستهتز.. قحبة فاتنة لا سيّدة مطبخ مطيعة.

 

هي الثورات هكذا، ولهذا فلن تخلو "ثورة" من ولد حالم، فيما السلطة تميت الحُلم، فإن اشتغل خيالها، فلن يبتعد في انشغالاته عن ماكينة القتل التي سيقتل مواطنه بها.

ـ مواطنه؟

 

نعم مواطنه، أنت في "سوريا الأسد"، وعلى المواطن أن يكون "صالحاً"، ما يعني أن يكون الحاكم أبدياً، فكلما ازدادت صلاحيتك، امتد طغيانه وطال، ولهذا فطالما هربتُ من أن أكون مواطناً صالحاً، وفي مصر عثرت على هذا الهارب مني "الولد الضال".

هذا الابن "الضال" هو ما أخذني مجددا ليوسف شاهين.

قبل سنة تقريباً، لم أكن أعرف ما يسمح لي بأن أكون من جمهور يوسف شاهين، غير أن المنعطف قد حصل، فما بين السأم والسأم أتفرج على "سينما"، هذه المرّة تفرجت على "باب الحديد" ليوسف شاهين.

 

ـ أيّ سينما هذه؟

تلك تحفة تساوي لمرحلتها ما ساواه فيلم بارادايس لحقبته، أما فيلم الاختيار فله شأن آخر، يمنح يوسف شاهين عيناً و "قلباً" ليرى فيهما تلك التلافيف السيكولوجية العميقة التي لا تكتشفها العين الواثقة.

 

ـ أقول الواثقة؟

 

نعم الواثقة، فما من متشكك بنفسه وبمنتوجه كما يوسف شاهين، ولولا هذا لتوقف عند فيلم الأرض، ولم يفكّك نفسه مع كل جديد يشتغل عليه، وهنا يختبئ الشيطان العبقري بيوسف شاهين، وأم كلثوم لا تحمل هذه السمة، فالست هي "البحيرة" أما شاهين فـ "الطوفان".

ـ هي بحيرة.. أنت معها أمر آخر.

 

أنت معها "تطير" لتحوم فوق البحيرة، لتلتقط الصورة، صورة البحيرة.. أم كلثوم هي السيدة المانحة، وفي هذا العالم ما يكفي من ستعيش بسببهم، وحين تتعالى عليهم تقول:

ـ من أجلهم.

 

لا، بسببهم أنت تعيش، ثمة من يقول لك:

ـ لست وحدك.

 

هم من يفعلون ذلك، يُحِدثون "المظاهرة" في عالم "مسيرات التأييد"، فتتدفق على أيديهم، فإذا كان للعالم رموز يستعين بها من أجل الثورات كنيلسون مانديلا، المهاتما، أو المُدهش سيمون بوليفار، فلهولاء ثوراتهم التي تحدث فيك لأنهم يبدّلونك، معهم أنت تتبدل، تكون ما قبلهم لست كما كنت بعدهم، يعني سيأخذونك إلى ما لا ترضى ومن تستبدله بما ترضى فتعيد "لا ترضى" لتكسّرها، وقد يكون فعل التكسير هذا هو فعل يدخل في عمق الرقص اليوناني.

 

ـ اليوناني، لا يعني أبداً الاتحاد الأوروبي والتبادل البضاعي، اليوناني يعني أفلاطون وسقراط، وكذلك أوغسطس قيصر، يعنّي "الأمّة"، تلك الكلمة المشتهاة التي تبحث عنها، والتي لا تكون مادامت دولتك:

ـ سوريا الأسد.

 

في اليونان أنت ابن أمّة لا نهاية لأسماء مؤسسيها ووارثيها، لهذا فهي أمّة، وتتقن تكسير الصحون، أمّا أنت فباحث عن هذه "الأمّة" التي لن يصنعها سوى المزيد من الرفض والتظاهِر وتكسير التماثيل بديلاً عن تكسير الصحون.

ـ هؤلاء، أنبياء ثورتي، وٍسأحاول جمعهم: الشيخ أحمد التوني، الشيخ أحمد برين، أم كلثوم، عبد الحليم، وحتى شعبولا، ابن الحواري، حواري مصر، القاهرة حصراً، تلك التي تبحث عن الاحتفال بعصير القصب.

 

عدت إلى "عقدة الأمّة"، ولا أشكّ بأن للحشيش علاقة ما بهذا التداعي، فهذه النبتة بالنسبة لي نبتة مقدّسة، ولولاها، لما وصلت الصوفية إلى هذا مستوى هذا الخلق في إعادة خلق النبي:

 

تصوّر، أيّ معضلة في وصف النبي على هذا النحو: "خُلِقت مبرّأ من كل عيب/ كأنك قد خُلقت كما تشاء"، أيّ حرية منحوها للنبي في شراكة صريحة مع الله؟!!

 

هؤلاء يحبّون الله بالبحث عنه، بتركه معلّقاً على تبدلات الخيال ونوع العشب المقدّس الذي يأخذ طريقه إليهم فيجعلك "لست ما كنت".

 

هي دي الحكاية، ولولاها ما قيمة كل هذه الثورات، وطالما أطاحت الثورات بجلاّد لتجلب جلاّد.

 

المسألة أعمق من مطلبية، بما يعني أن الثورات متطلِبة للخبز أو السكن أو حفّاضات أطفال مُحتَكرة في الأسواق.. الثورات هي فعل "وجود"، فـ "أنا السكون" يعني "أنا الجثّة"، وبوسعي أن أتساءل:

 

ـ ما الذي اختلف بالسيدة اليزابيت الثانية، الجثة المدفونة إلى جانب زوجها في ويندسور، عن الملكة اليزابيت الثانية على قيد الحياة؟

 

في الحالين هي السيدة الاكتئابية الشاحبة، سيّدة لم تهتز بما يكفي لتتحول.. التحوّلات تأتي بالانكسارات العميقة، ولهذا:

ـ أكسر من تُحِب.

اكسره لينتصر عليك أولاً، وفي ذلك انتصاراً لك فقد أينعت الحياة من حولك، فتجدد التحدّي وتجدد السؤال.

 

ـ مللت من الكتابة.

أشعر بأنني حكيم.

 

هذه نهاية مؤلمة، لرجل كان الصبي الشقي، وبات يبحث عن:

ـ الله. 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard