مفارقة جديدة في مأساة الثورة السورية المسلوبة: الجولاني في موسكو

ها هو الجولاني يطلّ من موسكو؛ لا كمنقلب على ماضيه، بل كمنسحب إلى الظل الروسي طلباً لشرعية مفقودة أصلاً، ومحاولةً متأخرة لتنظيف دماء المجازر التي ارتكبها مرتزقته.
لم تكن هذه الزيارة سوى امتداداً لما صرّح به الجولاني سابقاً حول التنسيق والتعاون مع الروس إبان ما سمي آنذاك بمعركة "ردع العدوان"، وامتداداً لتصريحه عن الالتزامات المتبادلة التي تُوّجت بإعلانه عن الإقرار بالاتفاقيات السابقة بين روسيا ونظام الأسد.
ها هو مجدداً يقدم نفسه كضامن لمصالح طرف خارجي جديد، ومستعد لدفع فاتورة من دماء السوريين مقابل تمديد إقامته في القصر ووجوده في السلطة.
مجرم يصدر نفسه كفاعل سياسي
المثير للسخرية في مشهد الانحطاط هذا أنّ الجلّاد صار يتجمّل بثوب السياسي، وأنّ من ولغ في دماء الأبرياء بات يزحف إلى عتبات من شاركه الجريمة ليتسلّق شرعيةً من رماد الجثث.
الجولاني، (القاتل) الذي اختبر دهاء الدم، يُسوّق نفسه اليوم كفاعلٍ سياسي خاضع، يطرق باب موسكو التي أغرقت الأرض السورية بالنار، مستجدياً اعترافاً من قاتله. كلاهما ملوثٌ بالدم، غير أنّ الفارق بينهما فاضح: بوتين، رجل الأمن الذي يجيد فنّ قراءة الخضوع واستثمار الرخاص، يمارس من موقع السيادة ما يفيد بلاده، أما الجولاني، فخيانته بلا غايةٍ إلا البقاء، وبلا رايةٍ إلا الطاعة.
بعينه المكسورة أمام القتلة، لا يجرؤ الجولاني على النطق بجرائمهم، لأنه يدرك أن سجله ليس أقلّ عاراً من سجلاتهم، وأنّ أيّ حديث عن المحاسبة سيستدعي مرآة دمائه هو. ومع ذلك، يواصل اندفاعه في مشروع انحطاطه السياسي والأخلاقي، كمن وجد في الدرك سُلّمه إلى العرش، وفي الخضوع شرفاً زائفاً. فمعياره الأوحد هو السلطة، ولو على أنقاض وطنٍ ذُبح مرّتين: مرةً برصاص الطغاة، ومرةً بخنوع من ادّعى أنه جاء لينقذه.
اقرأ أيضاً:
السويداء المستقلة: موقف وطني يرفض الاستبداد ويجسّد استقلال الإرادة السورية
محاولة جديدة فاشلة لتحصيل الدعم والشرعية
ليست زيارة الجولاني إلى موسكو سوى طقسٍ جديد من طقوس الارتهان، تتجاوز دلالتها حدود الانحناء السياسي إلى ما هو أعمق: إلى خيانة الذاكرة الجماعية للسوريين الذين حملوا الحلم والدم معاً.
فهي ليست مجرد تجاوزٍ لعذاباتهم وتضحياتهم، بل فرارٌ مدروس نحو الحضن الروسي، بحثاً عن ولادةٍ ثانيةٍ في ميزان القوى المتحوّل. بعد أن انكشفت جرائمه وتهاوت سردية "الاعتماد الدولي" التي كان يتكئ عليها، أدرك أنه لم يكن يوماً أكثر من أداةٍ وظيفية في منظومةٍ لا تمنح سوى بقاءٍ مشروطٍ وتحت سقف المصالح العابرة.
واليوم، إذ يمدّ يده نحو موسكو، لا يفعل ذلك من موقع الندّ أو الشريك، بل من موقع الخاضع الباحث عن وصايةٍ جديدة تقيه السقوط. يقدم القرابين السياسية والسيادية كما تُقدَّم النذور في معابد القوة، مراهناً على الفيتو الروسي في مجلس الأمن ليشتري به مظلة دولية بديلة تقيه عزلته، وتمنحه شرعية من فوق ركام الشرعية الوطنية.
إنها ليست زيارة سياسية، بل لحظة سقوطٍ إضافي في درك الوهم، حيث يتحوّل الطاغية الصغير إلى تابعٍ أخرسٍ في حضرة الكبار، يساوم على السيادة كما يساوم التاجر على البضاعة، ويظن أن بوسعه إعادة إنتاج نفسه في مرآة القتلة، متناسياً أن المرايا لا تعكس الدماء إلا كفضيحة.
الزيارة الطعنة لروح ثورة السوريين
الطعنة الأكبر لروح الثورة لم تأتِ من عدوّها المعلن، بل من ذاك الذي ارتدى عباءتها ليغرز خنجره في خاصرتها باسمها. لقد طُعنت الثورة كثيراً؛ تآمر عليها القريب والبعيد؛ لكنّ الجولاني كان الطعنة الأعمق.
لحظة أضحت الزيارة حقيقة، سارع زعيم (عصابة الإرهاب) وجوقته لتغليفها بورق الوطنية الزائف؛ فصدّروها تحت عنوان مخاتل: "المطالبة بتسليم بشار الأسد للمحاكمة". كان يعلم أن تلك العبارة ستُخفف من وقع الارتكاب، وستمنح خيانته لوناً ثورياً مزيّفاً، وتسمح له بتقديم بيع السيادة على أنه فعل سيادي بطولي؛ لكن الحقيقة كانت أبسط وأقسى: ما سُمّي بالزيارة لم يكن سوى توقيع صفقة بقاء. فصعود الجولاني إلى السلطة جاء كثمنٍ صريح لإبقاء القواعد الروسية في سوريا، ولضمان ألّا يُفتح يوماً ملفّ جرائم معلّمه الأسد، و جرائم معلّمي معلمه.
لم يكن ذهاب الجولاني إلى موسكو فعلاً سياسياً بقدر ما كان سجوداً على أعتاب القوة التي أحرقت المدن السورية، وسحقت أرواح المدنيين تحت صواريخها. ذهب حاملاً راية التنازل لا المطالبة، وملفّ الطاعة لا السيادة.
هناك، حيث ارتُكبت أبشع الجرائم بحق السوريين، قدّم نفسه وريثاً مطيعاً لمن دمّر البلاد، ناسياً أن تحت ركام المدن المحروقة لا يزال أنين الذين قُتلوا بالقصف الروسي يتردّد كنداء محاسبة لم يُسمع بعد؛ و لكن ليس ذلك مستغرباً ممن يبيع ذاكرة الدم، ولا يتورّع عن بيع ما تبقّى من الأرض.
وليس مستبعداً أن يكون غداً في طهران أو في تل أبيب، فالذي خلع قناع الثورة ليرتدي تاج السلطة لن يعرف للحياء طريقاً، ولن يتورّع عن طرق أبواب الطغاة جميعاً، ما دام البقاء هو الثمن.
الجولاني الذي طعن الثورة وتسلّط على ما تبقّى من روحها، يعرف أنه يتحرّك بين جمهورٍ فقد البوصلة، جمهورٍ خُدّر بخطاب المجد الزائف، وصدق أسطورة "إعادة دمشق الأموية"، فبات يرى في التبعية بطولة، وفي الانبطاح دهاءً سياسياً، جمهورٌ مستعد لتبرير الخيانة طالما أنّها ممهورة باسم "الانتصار" ولو كان هذا الانتصار على أشلاء الحقيقة.
لم يفعل ذلك سوريّ حقيقي، لأن السوري الحقيقي لا يسجد للقاتل ولا يتنازل عمّن قُتلوا في سبيل الكرامة. تلك قمّة الوضاعة وقمّة الخيانة، لا يبلُغها إلا مَن جعل مِن الثورة سلّماً إلى عرشه الزائف، ومِن القطيع جداراً يحميه من الحساب.
لكنّ الفاتورة آتية، ثقيلة ومهينة،وسيدفعها الجولاني ومن التفّ حوله،لأن التاريخ لايحمي المرتزقة، ولو تزيّنوا بكل رايات النصر الكاذب.
المأزوم بين ضغط أنقرا و إغراء موسكو
ذاك الذي لم يتقن من السياسة سوى لغة التبعية، يتأرجح اليوم بين ضغوط أنقرة، التي تملي عليه أجندات تفوق قدرته على التنفيذ، وبين إغراء موسكو، التي يتودّد إليها كغريقٍ يبحث عن قشةٍ دولية ينجو بها من الغرق. يدرك أن المشاريع الاقتصادية الوهمية التي روّج لها كأضغاث ازدهار لم تعد تخدع حتى الأطفال، وأن خطابه عن "النهضة" لم يكن سوى قناعٍ هشّ لسلطةٍ تقوم على القمع والنهب؛ ولذا، يقامر اليوم باستمالة موسكو اقتصادياً وسياسياً كرئةٍ بديلةٍ يتنفس منها، غير مدركٍ أن الارتهان لا يمنح الشرعية، بل يرسّخ العبودية في قالبٍ جديد؛ وأن التنقّل بين الأحضان الدولية ليس حراكاً سياسياً، بل دوراناً مذلاً لدمية تتقاذفها الأيدي خدمةً لمصالح الغير على حساب السوريين.
مأزومٌ هو الطاغية بإرهابه وإجرامه، ويعي أن رياح إعادة الصياغة السياسية بدأت تهبّ على المشهد السوري، وأن الحديث المتزايد عن دورٍ محتملٍ لضابط كبير منشق في معادلة السلطة المقبلة يشكّل تهديداً وجودياً لمشروع استبداده؛ لذلك يسابق الزمن للتحايل على أيّ اندماجٍ لقوات قسد في هيكل الحكومة الانتقالية، فيتقدّم نحو موسكو بقرابين سياسية وسيادية، طمعاً في مظلّة دعمٍ تقيه السقوط وتمنحه شيئاً من التوازن الميداني أمام قسد. إنه يحاول إعادة تموضعه داخل معادلةٍ تتآكل أوراقه فيها سريعاً، بعد أن أكل منه الإرهاب وجهه، ولم يبقَ له سوى وهم السلطة الذي يتشبّث به كمن يتمسّك بدخانٍ ليصنع منه عرشاً.
رُبًّ تلميذٍ فاق معلّمه
في ذروة لهاثه نحو البقاء، يقدّم الطاغية الجديد فروض الطاعة لموسكو كما يُقدَّم الولاء في لحظات الخوف، طمعاً بغطاءٍ يحصّنه من أيّ تصدّعٍ محتمل في الساحل السوري، مدركاً أن أيّ اختلالٍ هناك لن يكون مجرد اضطرابٍ جغرافي، بل انهياراً شاملاً لعرشه السياسي والأمني معاً. وفي موازاة ارتمائه هذا، يمدّ نظره إلى تل أبيب عبر الوساطة الروسية، راجياً رضىً إسرائيلياً يمدّ في عمر سلطته المهزوزة.
إنها الصورة الأوضح لتشابك منظومتي الطغيان في سوريا: النظام القديم الذي استهلك أدواته، والنظام الجديد الذي ورث منه منهج الارتهان وتبنّى آلية الاستبداد ذاتها.
فالجولاني ليس سوى نسخة مُعدّلة من نموذج الطاغية الذي تتلمذ في ظله، تابعٌ يسعى للشرعية عبر الخارج، ومأخوذٌ بوهم الحماية الأجنبية كأنها قدر السيادة. إنه يعيد إنتاج الدور ذاته في صيغةٍ أكثر انحطا طاً: نظامٌ بلا دولة، وسلطةٌ بلا شرعية، تتغذّى على الارتهان وتعيش على فتات الرضى الدولي.
ها هو زعيم سلطة (الإر ها ب) يبرهن، مرةً بعد أخرى، أنّه لا يرى في الوطن سوى منصةٍ لتجارته السياسية، ولا في السلطة سوى معبده الأوحد. يجلس في أحضان من يضمن له البقاء، غير آبهٍ بالثمن، ولو كان الثمن هو نسف حلم السوريين بالعدالة، وبيع ما تبقّى من سيادةٍ وطنيةٍ أُريق لأجلها الدم. يثبت أنه لم يكن يوماً فاعلاً سياسياً بل أداةً مأجورة، تحكم باسم القوة وتعيش على ريع الارتهان، وقد حوّل سوريا إلى مساحةٍ مستباحةٍ للارتزاق، وإلى ساحةٍ تُعرض فيها السيادة في مزاد المصالح.
إنّه الخنجر المسموم في جسد الثورة، ينغرس كل مرةٍ بوجهٍ مختلف وصوتٍ أعلى، لكنه الخنجر ذاته، المسكون بهاجس البقاء ولو على جثث الحلم الوطني. والمثير للشفقة حقاً ليس إرهابه، فقد ألفناه، بل تلك الأبواق التي تتبرّع بتلميع سيرته، وتغسل دمه بعبارات الولاء، مهللةً لوهم انتصارٍ لاوجود له. لاتدرك هذه الأبواق أنها ليست سوى البضاعة الأرخص في سوق النخاسة السياسية، تُقدَّم ضمن القرابين التي يضعها سيدها على موائد القوى الكبرى، ليشتري بها لحظةً إضافية من بقائه الملوّث بالد م والعار.