السويداء.. تحت حكم الأسد أم تحت حكم الفصائل؟
تعتبر محافظة السويداء موضوع جدل كبير لمّا يتوقّف بعد، بسبب موقفها من الثورة السورية، وما يعتبره بعضهم "حيادها الإيجابي" تجاه الثورة، نظراً لتاريخها الثوري ومقارعتها للاحتلال العثماني والاستعمار الفرنسي، واعتبارها المنطقة الأولى التي انخرطت في الثورة العربية الكبرى (1916) والتي انطلقت منها الثورة السورية الكبرى (1925) بقيادة سلطان الأطرش، بعد ثورتها الأولى على الفرنسيّين عام 1923، في حين يعدّها كثيرون موالية للنظام ولاء تامّاً، في سياق ما سمّي "تحالف الأقليّات".
اللافت في هذا الجدل، علاوة على خلفيّته الطائفيّة أنّ "المعارضة" تعتبرها موالية للنظام، والنظام يعتبرها معارضة ومعادية له وفق مبدأ: من ليس معنا فهو ضدنا، ويتحيّن الفرص للانتقام منها، (على نحو ما جعلها مكشوفة أمام داعش؛ على الأقل، صيفَ 2018)، وقد عمل على تفتيتها وإثارة العداوات والنزاعات بين عائلاتها، وتلغيمها بالميليشيات المسلّحة وشبكات التهريب، وشبكات الفساد والمخدّرات، والمخبرين، وجعلها مرتعاً لميليشيا حزب الله والمافيا الإيرانيّة ووضعها في مواجهة محافظة درعا بصورة أساسيّة، لتعميق النزعات الطائفيّة في المحافظتين.
تدرك السلطة أنّها لا تقوى على هذه المحافظة الصغيرة، التي واجهت الإمبراطوريّة العثمانية، وهزمت جيش إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا، وهزمت القوّات الفرنسية في سوريا شر هزيمة، وواجهت دكتاتوريّة الشيشكلي، ثمّ اقتصت منه. تستطيع السلطة تدمير محافظة السويداء كما دمّرت محافظات أخرى، لكنّها لا تستطيع هزيمتها أو كسرها وإخضاعها، مثلما لا تستطيع هزيمة الشعب السوري وكسره وإخضاعه. فإنّ ما تعتبره السلطة اليوم انتصارها العسكري، بفضل الإيرانيّين والروس وحزب الله وحلفائه في لبنان، هو هزيمتها المحققة شعبياً وسياسياً وأخلاقيّاً، ولهذه الهزيمة تداعياتها. لذلك تلجأ السلطة إلى أساليب التفرقة وشراء الذمم، ونشر السلاح والمخدرات إضافة إلى سياسة التجويع والتركيع، لا سيما أنّ المحافظة تعاني من حرمان مزمن، تضاعف منذ عام 2011 أضعافاً.
مارست السلطة السياسيّة في سوريا ولايتها على المجتمع السوري كله، وعزّزت ثنائيّة الأكثريّة والأقليّات في الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة، وثنائيّة المعارضة والموالاة في الحياة السياسيّة، كما عزّزت الطائفيّة في المجالين الثقافي والديني، فتقاطعت الانقسامات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة مع الانقسام العمودي الأعمق: موالاة / معارضة، بحيث صار لهذا الانقسام العمودي أبعاد اجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة وإثنيّة وطائفيّة، فنتجت من ذلك تعارضات اجتماعيّة جديدة، تضاف إلى الانقسامات الطبقيّة والصراعات السياسيّة، والنزعات الطائفيّة، التي اتخذت مساراً انهياريّاً، منذ عام 1970. فمنذ عشرات السنين وسوريا تخضع لنظام تسلطي مركّب، قائم على التمييز الطائفي والجنسي والإثني. السنوات العشر الماضية من حرب سوريّين على سوريّين، أثبتت انفصال السلطة عن المجتمع، وكشفت ركائز حكمها التمييزي، فتعمَّق الفقر والتهميش وازداد عدد الفقراء، والمهمشين والمهمشات، وتعمّقت الهوة بين مجتمع السلطة المحظوظ، أو مجتمع الامتيازات وبين مجتمع الظل، أو المجتمع المهمّش والمحروم من الحد الأدنى للحياة الإنسانيّة اللائقة".
السويداء؛ تختلف عن بقية المحافظات السوريّة في وجهيها الاجتماعي والديني، فهي ذات غالبيّة درزية كبيرة، ولا تزال العائلة الممتدة هي السائدة في"المجتمع الدرزي" كما تسميه السلطة، وهي تسمية مبتكرة، قد تكون تتمتها السياسيّة "الشعب الدرزي"، وتصير سوريا في نظر السلطة وحزبها القومي الوحدوي تراصف شعوب، هي طوائف وإثنيّات. وإذ لا تزال العائلة الممتدة أقوى وأكثر نفوذاً من الحزب والنقابة والمؤسّسة الحديثة، والعرف أقوى من القانون والطائفة أقوى من العائلة، فإنّ المحافظة، كغيرها من المحافظات السوريّة، قابلة للاختراق والإضعاف، على نحو اخترقتها الأجهزة الأمنيّة، وقابلة لمزيد من الاختراق، من جانب وقابلة، في الوقت نفسه، لأن تكون قوّة متجانسة وصخرة صلبة في وجه من يعتدي عليها ويهين كرامتها.
إنّ موقف السلطة الكيدي والعدائي والانتقامي من محافظة السويداء يكذّب ادعاءها "حماية الأقليّات"،من جهة، ويؤكّد حقيقة أنّها كانت تنظر إلى كلّ من لا يواليها ولاء تامّاً على أنّه عدوّها، ويؤكّد من ثمّ أنّها هي التي شنّت الحرب على الشعب، عن سابق تصوّر وتصميم، ولم ترتوِ بعد من دمائه، وأنّ حربها هي التي استقدمت النفوذ الإيراني والميليشيات الطائفية وحزب الله والنفوذ الروسي، واستقدمت من ثمّ الجماعات الجهاديّة والمنظمات الإرهابيّة، ولو من باب مسؤوليّتها السياسيّة فقط.
تنقسم السويداء، اليوم، قسمين: قسم موالٍ للسلطة، وآخر معارضٍ لها، القسم المعارض لا يعدّ معارضة سياسيّة، مع أنّه يضم الذين شاركوا في الثورة السوريّة، والذين انحازوا لها أو أيّدوها، وهؤلاء، على الأغلب، ممّن يتطلّعون إلى التغيير وإلى دولةٍ وطنيّة ديمقراطيّة، تحقّق العدالة الاجتماعيّة، والحريّة والمساواة، بعيداً عن الطائفيّة والمذهبيّة، وثنائيّة الأقليّة والأكثريّة، في حين ينتمي الموالون للسلطة، إمّا إلى حزب البعث والجبهة التقدميّة وإمّا إلى أيّ سلطة قائمة على أرض الواقع (سلطة الأمر الواقع)، وإلى مصالحهم الشخصيّة التي تتعارض تماماً مع أي تغيير، ويرجع ذلك إلى النسبة الكبيرة من العاملين والعاملات في قطّاع الدولة، ممن يعتبرون أنّ السلطة مصدر عيشهم وبقائهم على قيد الحياة، وتخفي تحت تلك المصالح انتماءات أوليّة عائليّة ومذهبيّة وإثنيّة موزّعة على عائلات تتصدّرها هيئات اجتماعيّة وتحمل خصائص العشيرة. وهناك موالون ظاهريّاً ومعارضون ضمنيّاً، كالتجار والصناعيّين، أمّا الوجه الديني للمحافظة المتمثّل بمشايخ العقل، أو الهيئة الروحيّة للموحدين الدروز، وهي سلطة متوارثة، لا تخضع للانتخاب أو الكفاءة العلميّة والفقهيّة، هذا الوجه يقف موقفاً انتهازيّاً لا موقفاً حياديّاً، للحفاظ على سلطته أوّلاً، وخوفاً على المحافظة من الدمار الذي أصاب المحافظات المعارضة للنظام ثانياً، حسب زعمه.
لم يستطع النظام السوري أن ينسب المجتمع الدرزي إلى الجماعات الإسلاميّة المعارضة له، كونه من طائفة غير سنيّة، لكنّه عمِل على تفتيت المجتمع من الداخل، فساهم في انتشار السلاح العشوائي بين أفراد مجتمع السويداء، كما ساهم في إحداث العديد من الفصائل المسلّحة ومنها فصائل دينيّة، لا تجنّد في صفوفها إلا الشباب المتديّنين، وتدّعي أنّها حامية للمحافظة، كما يدّعي النظام أنّه حامي للأقليّات السوريّة.وبالتعاون مع الأمن العسكري المركزي وفرعه في السويداء، نشطت تلك الفصائل ضدّ الأهالي في المنطقة، تقتل وتخطف وتسرق كلّ من يشير إليه فرع الأمن العسكري، هذا من جهة، ومن الجهة الثانية وقفت الفصائل مع الشباب المطلوبين للخدمة العسكريّة موقف المؤيّد، لكنّها استغلّت تلك المسألة لمصالحها، في ظروف اقتصاديّة سيئة، فجنّدت القسم الأكبر من هؤلاء الشباب في الفصائل، مستغلّةً الوضع القائم بإحكام القبضة على أعناقهم، وهذه الشريحة من الشباب أطلق عليها مصطفى حجازي "شباب الظل أو الشباب المهدور"، الذين حرموا من التعليم الجيّد ومن العمل والحياة الكريمة، مع العلم أنّ الغالبيّة العظمى من شباب السويداء وشاباتها متعلمون ومتعلمات، لكنّ فرص العمل غير متاحة، إلّا وفقاً لسياسة الاصطفاء الحزبي و"التعاون مع الأجهزة الأمنيّة".
سياسة النظام، وسياسة الفصائل المسلّحة في السويداء، وجهان لعملة واحدة، كلّ سلطة تبسط سيطرتها بطريقة مختلفة، فالاعتقال وفصل المعارضين والمعارضات من العمل، من اختصاص السلطة السياسيّة المتمثلة بالأجهزة الأمنيّة، والسرقة والخطف والقتل وإثارة الرعب بين الأهالي من اختصاص الفصائل المسلحة، التي تشكّل سيفاً ذا حدّين، الحدّ الأول هو ادعاء حماية الأهالي، وقد دعّم هذا الموقف دفاع الفصائل ضد هجوم داعش في تموز 2018، وقد سقط من منتسبيها عشرات القتلى في تلك المعركة، وصار شعارها المتداول، "حماية الأرض والعرض"، وذلك لكسب القوة الشعبيّة إلى جانبها، كما أنّها دعمت ولو من بعيد، حملة "بدنا نعيش" التي قامت بها مجموعة من شباب وشابات السويداء. والحدّ الثاني؛ هو إثارة الشغب في الداخل، وخلخلة النسيج الاجتماعي الذي عسكرته السلطة السياسيّة بحجّة الحماية الداخليّة للأقليّات.
لم تعد السويداء هادئة، ولا آمنة، إنّما ترقد فوق بركان خامد قد ينفجر في أيّ لحظة نتيجة الضغط القائم عليها من السلطات الحاكمة في المحافظة.